محمد بن منيع أبو زيد: “مالٌ يُضحك… وفقرٌ يُبكي!”
“A rich man’s joke is always funny” هذا المثل الإنجليزي العتيق يلخص بعبقرية واقعاً مؤلماً نعيشه في كل المجتمعات منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. فنكتة بسيطة من رجل ثري تُستقبل بضحكات هستيرية وكأنها أعظم ما قيل في تاريخ البشرية، بينما تُهمل أذكى النكات وأكثرها إبداعاً إذا كانت من شخص فقير. في هذا الكون المتناقض، يتحول المال إلى عصا سحرية تمنح صاحبها قدرة خارقة على تحويل الرصاص إلى ذهب، والكلمات العادية إلى حكم وأمثال خالدة!
لنتخيل معاً مشهداً يتكرر كل يوم في مجالسنا: يدخل رجلٌ ثري بمظهره الفاخر إلى مجلس من مجالس القوم، يتهادى في مشيته، تلمع ساعته الثمينة التي تعادل راتب موظف لعشر سنوات، وتفوح رائحة عطره الباهظ. يبدأ بالحديث عن مشاريعه واستثماراته بثقة مفرطة: “أتعلمون أن الاستثمار في العقارات الآن أفضل من الذهب؟” فيهز الجميع رؤوسهم موافقين، وتنهال الضحكات والتعليقات المؤيدة وكأنه قد ألقى أطرف نكتة في التاريخ. ثم يخرج نكتة باهتة عن الطقس، فينفجر الجميع ضاحكين حتى تدمع عيونهم! لكن تخيل لو دخل نفس هذا الرجل بملابس متواضعة، وجيوب خاوية، وقال نفس الكلام، لما التفت إليه أحد، بل ربما سخروا منه قائلين: “من هذا المسكين الذي يتحدث عن استثمارات وهو لا يملك ثمن وجبة عشاء؟”
“الكاش ينهي النقاش”… قاعدة العصر الذهبية!
للأسف الشديد، أصبحت قاعدة “الكاش ينهي النقاش” هي الدستور غير المعلن الذي تسير عليه المجتمعات البشرية اليوم. فمهما كانت حججك قوية، ومهما كانت أفكارك عميقة، ومهما كانت مبادئك نبيلة، فإن حفنة من الأوراق النقدية كفيلة بإسكاتك وإنهاء أي نقاش! لقد تحول المال من وسيلة لتبادل السلع والخدمات إلى معيار للقيمة الإنسانية والمكانة الاجتماعية.
والغريب في الأمر أن بعض الأغنياء – وليس كلهم بالطبع – تصرفاتهم غريبة وعجيبة للغاية! يطلقون تعليقات وكلمات في قمة الغرابة، ويقولون حكماً وأمثالاً لا أعلم من أين أتوا بها! وبهم من “البياخة وثقل الدم” الشيء العجيب! ومع ذلك، يقابل المجتمع هذه التصرفات بالضحك والتصفيق والإعجاب! ولو فعل محمد أبوزيد (أنا) جزءاً بسيطاً من هذه التصرفات، أو تحدث ببعض من هذه الكلمات، لأصبح حديث المجتمع، ولواجه الكثير من الانتقادات، بل وقد يصل الأمر إلى التنمر واتهامه بالجنون وعدم الاتزان! لكن الغني لو فعل نفس الشيء تماماً، لضحك الناس وهلل الجميع وصفق له ونال المدح والثناء!
وهنا لابد من التوضيح أن نقدي ليس موجهاً لكل الأغنياء، فمنهم – ولله الحمد – من هم أفاضل وأصحاب أيادٍ بيضاء وكرم وجود وأخلاق عالية، وهؤلاء لهم كل التقدير والاحترام. إنما النقد موجه لتصرفات البعض منهم، وللظاهرة الاجتماعية المتمثلة في انبهار الناس وسحرهم بالمال، وتعاملهم مع صاحب المال بمعايير مختلفة عن بقية البشر.
أتخيل الآن كيف سيواجه محمد أبوزيد (أنا) تهماً واضحة وصريحة من بعض الأغنياء بأنني حاسد وحاقد لمجرد طرح هذه الأفكار! وكأن أي انتقاد للظواهر الاجتماعية المرتبطة بالمال يعني تلقائياً أنك تحسد الأغنياء على أموالهم! والحقيقة أنني لست بحاقد أو حاسد على الإطلاق، بل أدعو لهم بأن يزيدهم الله من واسع فضله وجوده وكرمه. فالمال نعمة من الله، والله تعالى يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]. لكن المشكلة ليست في المال نفسه، بل في جعله المعيار الوحيد لقيمة الإنسان ومكانته!
فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. فالتقوى هي معيار التفاضل عند الله، وليس المال أو الجاه أو المنصب.
الأمثال التاريخية والحكم المتوارثة
إذا استعرضنا تراثنا الإنساني، سنجد أن هذه الظاهرة قديمة قدم المجتمعات البشرية نفسها. فمنذ أن عرف الإنسان المال كوسيلة للتبادل، تحول إلى معيار للقيمة الاجتماعية أيضاً:
- “الغني يُكرم، والفقير يُحتقر”، وهو مثل متداول في مختلف الثقافات يعكس كيف أن المال يمنح صاحبه هالة من الاحترام التلقائي، حتى لو كان لا يستحقها بأخلاقه أو سلوكه.
- “المال يتكلم والفقراء يصمتون”، وهو مثل يكشف كيف أن صوت المال يعلو فوق كل الأصوات، وكيف أن الفقراء مهما كانت حججهم قوية، غالباً ما يضطرون للصمت أمام سلطة المال.
ومن المقولات المأثورة التي اكتسبت صيتاً واسعاً بين الناس: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”. وقد اختلف العلماء في نسبة هذه المقولة، فمنهم من نسبها إلى سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، ومنهم من نسبها إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان أحدهما رضوان الله عليهما عند قوله هذا حاسداً وحاقداً على الأغنياء؟ بالطبع لا! فهما من أعدل الخلفاء وأكثرهم زهداً وتقوى. لكنهما كانا يدركان أن الفقر المدقع قد يدفع الإنسان إلى مهاوي الذل والمعصية، وقد يحرمه من العيش بكرامة، وقد يمنعه من أداء واجباته تجاه نفسه وأهله ومجتمعه. فالمقولة ليست دعوة لكراهية الفقراء أو تمجيد الأغنياء، بل هي تعبير عن كراهية حالة الفقر نفسها، لما تسببه من معاناة للإنسان.
الشعر والأدب: مرآة المجتمع
في الشعر العربي، نجد العديد من القصائد التي تتناول هذه المفارقة الاجتماعية المؤلمة. فقد قال الشاعر:
“إنَّ الغـنيَ مـن الرجالِ مُـكرَّمٌ
وتراهُ يُـرجى ما لديهِ ويُرهبُ
ويُـبَشُّ بـالتَّرحيبِ عنـدَ قدومِهِ
ويُقـامُ عنـدَ سلامـهِ ويُقرَّبُ
والفـقرُ شيـنٌ للرِّجـالِ فـإنـه
حقـاً يهونُ به الشَّريفُ الأنسبُ”
وهناك أيضاً هذه الأبيات الرائعة للشاعر خلف المشعان التي تصور بدقة متناهية تفاوت معايير تقييم الناس في مجالس الرجال:
“رجلٍ تعزه بعد ما تلتقي فيه
ورجلٍ قبل لا تلتقي به تعزّه
ورجلٍ ترزّه بالمجالس مباديه
ورجلٍ فلوسه بالمجالس ترزّه”
هذه الأبيات تكشف بعمق أربعة أنماط من الرجال: الأول هو من تزداد قيمته في عينيك بعد أن تتعرف عليه عن قرب وتكتشف معدنه الأصيل. والثاني هو من سبقته سمعته الطيبة فأحببته قبل أن تلتقي به. والثالث هو من تجعله مبادئه وأخلاقه محترماً في المجالس، فيُرفع قدره بسبب قيمه النبيلة. أما النمط الرابع – وهو للأسف الأكثر انتشاراً في مجتمعاتنا المعاصرة – فهو ذلك الشخص الذي لا يملك من المزايا إلا المال، فيجعله هذا المال “رزّه” (أي محط اهتمام وتقدير) في المجالس!
سيناريوهات كوميدية من واقعنا المرير
تخيلوا معي هذا المشهد الكوميدي الساخر: رجل ثري يجلس في مطعم فاخر، يطلب طبقاً باهظ الثمن، ثم يقول للنادل: “هذا الطعام ليس جيداً بما فيه الكفاية!” فيأتي مدير المطعم راكضاً، ينحني له احتراماً، ويقدم له الاعتذارات، ويعرض عليه طبقاً آخر مجاناً، بل وربما يقدم له وجبة العشاء كاملة مجاناً! أما لو قال نفس الجملة شخص عادي، لكان الرد: “إذا لم يعجبك الطعام، فهناك مطاعم أخرى في الشارع!”
أو تخيلوا هذا المشهد: رجل ثري يرتدي بدلة فاخرة، يقف أمام مجموعة من الناس ويلقي محاضرة عن “كيفية النجاح في الحياة”، فيصفق له الجميع بحرارة، ويتهافتون على شراء كتابه الذي يتحدث فيه عن “أسرار النجاح”! بينما لو وقف شخص فقير، حتى لو كان عالماً أو مفكراً، وحاول أن يتحدث عن النجاح، لضحك الناس عليه وقالوا: “انظروا إلى هذا المسكين، يتحدث عن النجاح وهو فاشل في حياته!”
في النهاية، علينا أن نتذكر أن المال، رغم قدرته الساحرة على شراء الضحكات والمجاملات والتملق، إلا أنه يعجز تماماً عن شراء القلوب الصادقة والمشاعر الحقيقية. فربما يكون الفقراء أكثر قدرة على فهم جوهر الحياة وتذوق حلاوتها، لأنهم يتعاملون مع الواقع دون زيف أو تصنع. فالفقير الذي يمتلك روح الدعابة الحقيقية يفهم الحياة بعمق أكبر، ويضحك من القلب، وليس لإرضاء الآخرين أو كسب ودهم.
وفي المرة القادمة التي تجد فيها شخصاً ثرياً يُضحك الجميع بنكتة عادية، تذكر أن الضحك الحقيقي ينبع من القلب، وليس من الجيب! فربما يكون الأغنياء هم من يحتاجون إلى المال لشراء الضحكات والإعجاب، بينما يملك الفقراء كنوزاً داخلية من الحكمة والصبر والقدرة على رؤية الجانب المضيء من الحياة، حتى في أحلك الظروف.
لذا، دعونا نحتفي بقدرتنا على الضحك الحقيقي، النابع من القلب، سواء كنا أغنياء أو فقراء، لأن الضحك الصادق هو الثروة الحقيقية التي لا تُقدر بثمن، والتي لا يمكن لأي رصيد بنكي أن يشتريها!
صحيفة الرياض 24 ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة