بريطانيا في الخليج: شراكة بحرية من أجل الاستقرار والازدهار المشترك.. قراءة تحليلية في ضوء عملية HIGHMAST 2025

في سياق تصاعد التهديدات البحرية وتبدّل خرائط النفوذ الإقليمي، تعيد بريطانيا صياغة حضورها البحري في الشرق الأوسط ضمن مقاربةٍ تقوم على المصالح المشتركة وتكامل القدرات مع شركائها الإقليميين، بعيدًا عن المقاربات الأحادية التي سادت مراحل سابقة. وتمثّل عملية “HIGHMAST 2025” التي تقودها البحرية الملكية البريطانية تجسيدًا لهذا التحوّل، إذ تُعبّر عن نهج تشاركي يسعى إلى تعزيز أمن الممرات البحرية الحيوية واستقرار سلاسل الإمداد والتجارة الدولية، عبر تعاون عملياتي منسّق مع القوى البحرية الإقليمية والدولية.

إن تسارع التحولات في بيئة النفوذ البحري وازدياد المخاطر التي تهدد حرية الملاحة والمضائق الاستراتيجية، يضع لندن أمام معادلة جديدة قوامها الردع عبر الشراكة لا عبر الاستعراض. فالمقاربة البريطانية الراهنة تُركّز على توحيد إجراءات التشغيل، التدريب المشترك، وتطوير المنظومات اللوجستية والتقنية بما يعزز قابلية العمل المتبادل (interoperability) ويكرّس نموذجًا للأمن البحري التعاوني، يقوم على تقاسم المسؤولية والاعتماد المتبادل بين الحلفاء. وبهذا، يغدو الحضور البريطاني في الخليج ترجمةً لرؤيةٍ أمنية تشاركية، أكثر منه إعادة إنتاج لدورٍ تقليدي قائم على الهيمنة أو التفوق العسكري.

الخلفية التاريخية والمرتكزات البحرية البريطانية

منذ القرن السابع عشر، شكّلت البحرية الملكية البريطانية أحد الأعمدة الأساسية للقوة الوطنية في المملكة المتحدة، وأسهمت في رسم ملامح النظام البحري الدولي عبر قرون من الصراعات والتحالفات. وقد تراكمت لديها خبرة استراتيجية طويلة مكّنتها من تطوير عقيدة بحرية قائمة على المرونة والانتشار البعيد، الأمر الذي حافظ على حضورها كفاعل مؤثر في ضبط توازنات القوة البحرية حتى القرن الحادي والعشرين.

ورغم التحولات العميقة التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة، ما تزال البحرية الملكية توظّف إرثها التاريخي وقدراتها العملياتية ضمن مقاربة جديدة تركّز على الجاهزية، التكامل التقني، والعمل المشترك مع الحلفاء. فبدل الاعتماد على رمزية “الإمبراطورية البحرية”، أعادت بريطانيا تعريف قوتها البحرية بوصفها أداة دعم للسياسة الخارجية والأمن الجماعي، قادرة على المساهمة في إدارة الأزمات وتوفير الأمن البحري في البيئات عالية التعقيد.

وبحسب بيانات وزارة الدفاع البريطانية (MoD, 2024)، تمتلك البحرية الملكية اليوم حاملتي طائرات من طراز Queen Elizabeth-class، وفرقاطات ومدمرات من فئة Type 23 وType 45، إلى جانب أسطول من الغواصات الهجومية Astute-class. كما تشير تقارير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS, Military Balance 2024) إلى أن بريطانيا تحتفظ بقدرات متقدمة في مجالات القيادة والسيطرة والعمليات المشتركة، وتُعد وحدة Special Boat Service (SBS) إحدى أكثر الوحدات البحرية الخاصة تدريبًا على مستوى العالم، ما يجعلها عنصرًا محوريًا في تنفيذ المهام الدقيقة والتدخل السريع في البيئات البحرية المعقدة.

وعليه، فإن القوة البحرية البريطانية تمثل ركيزة دائمة في سياستها الدفاعية والدبلوماسية، من خلال أدوارها الممتدة من الردع في أوقات التوتر إلى المشاركة في الجهود الدولية لحماية حرية الملاحة. ولا تُقاس هذه المكانة بالرمزية التاريخية، بل بقدرتها على تكييف خبرتها التاريخية مع تحديات الأمن البحري المعاصر، وإسهامها في بناء شراكات تستند إلى التشغيل المشترك والاعتماد المتبادل مع الحلفاء، لا إلى التفوق الانفرادي أو الهيمنة التقليدية.

الصناعات الدفاعية كرافعة استراتيجية

ترتكز القدرات البحرية البريطانية على قاعدة صناعية متقدمة تشكّل مكوّنًا تكامليًا في منظومة الأمن الدفاعي المشترك، وتشمل شركات كبرى مثل BAE Systems وRolls-Royce Defense وMBDA UK. وتوفّر هذه المؤسسات تقنيات بحرية وجوية متطورة تُسهم في تعزيز الكفاءة التشغيلية للأسطول البريطاني، وفي تطوير الحلول المشتركة مع الحلفاء، بما في ذلك برامج التدريب، وتبادل المعرفة الفنية، وتطوير منظومات القيادة والسيطرة.

تُعد هذه الشراكات الصناعية جزءًا من بنية تعاون دفاعي عابر للحدود، تسعى بريطانيا من خلالها إلى توسيع دائرة التشغيل البيني (interoperability) مع شركائها في الخليج، بما يعزز القدرات المحلية ويؤسّس لشراكة تقنية ولوجستية طويلة الأمد، تتجاوز مفهوم الدعم الخارجي إلى بناء قدراتٍ إقليمية مستدامة.

HIGHMAST 2025: مقاربة استراتيجية تتجاوز البعد المناوراتي

تمثل عملية “HIGHMAST 2025″، التي تقودها حاملة الطائرات HMS Prince of Wales (R09) ضمن مجموعة Carrier Strike Group (CSG 2025)، أحد أبرز نماذج التعاون البحري المتعدد الأطراف هذا العام. فالعملية، الممتدة من البحر المتوسط إلى المحيطين الهندي والهادئ، لا تُختزل في بعدها العسكري، بل تُعبّر عن توجه بريطاني لتعزيز العمل البحري المشترك، وضمان حرية الملاحة الدولية عبر مناطق التوتر البحري، من البحر الأحمر إلى الخليج العربي.

يُشارك في العملية اثنتا عشرة دولة، وتغطي أكثر من 26 ألف ميل بحري، وتتضمن أكثر من 60 تمرينًا متعدّد الجنسيات، ما يجعلها منصةً لتبادل الخبرات وتعزيز التنسيق العملياتي القياسي بين الأساطيل المشاركة. وتتمحور أهدافها حول ثلاثة محاور رئيسة:

– تعزيز الردع التعاوني عبر إظهار الجاهزية المشتركة والقدرة على التدخل السريع عند الحاجة.

– بناء الثقة البحرية من خلال تدريبات متبادلة تحاكي سيناريوهات واقعية، وتدعم التواصل التكتيكي بين الحلفاء.

– اختبار منظومات القيادة المستقلة لبريطانيا داخل وخارج حلف الناتو، بما يبرهن قدرتها على المبادرة دون تجاوز شركائها الاستراتيجيين.

من هذا المنظور، تُمثّل “HIGHMAST 2025” إطارًا عمليًا لتكامل القدرات البحرية البريطانية مع نظيراتها الإقليمية، وإعادة تعريف الحضور البحري البريطاني كفاعلٍ ضمن منظومة أمنية جماعية، لا كقوة منفردة أو وصية على الأمن الإقليمي.

القدرات العملياتية والتكامل التكنولوجي

تعكس مجموعة Carrier Strike Group 2025 مزيجًا من القدرات الجوية والبحرية المتكاملة التي تُجسّد التوجه البريطاني نحو القوة المشتركة متعددة المجالات. تضم المجموعة حاملة الطائرات HMS Prince of Wales وغواصة من فئة Astute-class ومدمرة من فئة Type 45 (HMS Dauntless) وفرقاطة من فئة Type 23 (HMS Richmond)، إلى جانب سفينتي دعم لوجستي من طراز RFA Tideforce وRFA Tidespring.

خلال الانتشار، تم تشغيل ثماني عشرة طائرة مقاتلة من طراز F-35B Lightning II بالتعاون بين سلاح الجو الملكي (RAF) والأسطول الجوي البحري (Fleet Air Arm)، إلى جانب مروحيات Merlin Mk2 المضادة للغواصات، ومروحيات Merlin Mk4 Commando وWildcat، فضلاً عن الطائرات المسيرة Malloy T-150 وPuma. هذه التشكيلة المتنوعة لا تعكس فقط الجاهزية العملياتية البريطانية، بل تؤكد أيضًا على قابلية التكامل مع القوات الشريكة في إطار تدريباتٍ تهدف إلى توحيد إجراءات التشغيل وتطوير القدرات التكتيكية المشتركة.

كما شهدت العملية تنفيذ تدريبات في مجالات الأمن السيبراني والحرب الإلكترونية بإشراف مركز متخصص في مقاطعة ويلتشير، بهدف حماية المجموعة من التهديدات غير التقليدية أثناء عبورها مناطق حساسة مثل مضيق باب المندب. وقد مثّلت هذه التدريبات نموذجًا لدمج الأمن الإلكتروني ضمن العقيدة البحرية الحديثة، بما يضمن التنسيق بين الدفاعين البحري والرقمي في آنٍ واحد.

وفي إطار تعزيز التشغيل البيني، نُفّذت تدريبات مشتركة موسعة مثل تمرين “Med Strike” في البحر الأبيض المتوسط، شملت عمليات التزود بالوقود جواً وتحت البحر، وتمارين لوجستية لاختبار جاهزية الأسطول في بيئاتٍ متعددة. ويشير هذا إلى تحوّل تدريجي في مفهوم الانتشار البريطاني من الاستعراض البحري إلى الاختبار العملي للتكامل والتنسيق مع القوات الحليفة في ظروفٍ واقعية.

التعديل الاستراتيجي نحو البحر الأحمر

رغم أن نطاق عملية “HIGHMAST 2025” كان موجّهًا أساسًا نحو المحيطين الهندي والهادئ، فإن عبور المجموعة البحرية قناة السويس في حزيران شكّل تحولًا استراتيجيًا مدروسًا نحو البحر الأحمر، في ضوء تصاعد التهديدات المرتبطة بالهجمات الحوثية وتنامي التوترات الإقليمية في الممرات البحرية الحيوية. يعكس هذا التحوّل مرونة في التوجيه الاستراتيجي البريطاني وقدرة على إعادة توزيع الموارد البحرية استجابةً لتطور المخاطر، وبما يعزز التنسيق مع الشركاء الإقليميين في حماية أمن الملاحة والاستقرار الاقتصادي الإقليمي.

العلاقات البريطانية–الخليجية: من التعاون الأمني إلى الشراكة المتبادلة

تستند العلاقات البريطانية–الخليجية إلى تاريخ طويل من التعاون البحري والأمني، تطوّر من إطار الحماية التقليدية في القرن الماضي إلى نموذج شراكة تكاملية يقوم على المصالح المشتركة وتبادل الخبرات. وتشمل هذه العلاقات تدريبات مشتركة، زيارات موانئ، وبرامج تبادل أمني تُعزّز من قابلية التشغيل البيني (interoperability) وتؤسس لثقة مؤسساتية مستدامة بين الجانبين.

وفي ظل التحولات المتسارعة في البيئة الأمنية الإقليمية وتبدّل أنماط التحالفات الدولية، تعمل بريطانيا اليوم على ترسيخ حضورها البحري في الخليج بوصفه إطارًا للتعاون التقني والتدريب المشترك، لا كأداة نفوذ أحادي. فالمقاربة البريطانية تُركّز على تطوير القدرات المحلية والدعم اللوجستي المشترك، بما يتيح للدول الخليجية لعب دور أكبر في حماية ممراتها البحرية وتأمين تجارتها الدولية. وتظهر هذه المقاربة أكثر اتزانًا مقارنةً ببعض الشراكات الغربية التي واجهت تحديات في الأعوام الأخيرة، إذ تقوم على التنسيق لا التبعية، والمصالح المتبادلة لا التوجيه السياسي.

تأتي هذه الاستراتيجية ضمن مشهد إقليمي بالغ التعقيد، حيث لم تعد الممرات البحرية مجرد خطوط عبور تجارية، بل مساحات لتقاطع الأمن بالاقتصاد ورسم التوازنات الجيوسياسية. فمن البحر الأحمر إلى مضيق هرمز، تتداخل الاعتبارات الدفاعية مع مصالح الطاقة والتجارة العالمية، ما يجعل أي اضطراب في المنطقة ذا انعكاس مباشر على الاقتصاد البريطاني والأوروبي على السواء. ومن هنا، يتحرك القرار البريطاني في الخليج ضمن منظورٍ وقائي تعاوني يسعى إلى الحد من التهديدات قبل تصاعدها، من خلال العمل المشترك مع الدول الإقليمية على مستوى التدريب، تبادل المعلومات، وتطوير القدرات البحرية المستقلة.

ورغم التحديات الاقتصادية الداخلية، ما تزال بريطانيا تموّل عملياتها البحرية من الخزينة العامة، بوصفها استثمارًا استراتيجيًا في استقرار شبكة التجارة العالمية. في المقابل، تعزّز الاستثمارات الخليجية في الاقتصاد البريطاني البعد الاقتصادي للشراكة الدفاعية، لتغدو العلاقة شبكة متكاملة من الاعتمادية المتبادلة التي تربط بين الأمن البحري والتنمية الاقتصادية والتكنولوجيا الدفاعية.

خاتمــــــــة

في عالمٍ تتغيّر فيه خرائط القوة وتُعاد فيه صياغة التحالفات، يُمكن النظر إلى الدور البريطاني في الخليج بوصفه شراكة عملية قائمة على تبادل المصالح والخبرات، لا كاستمرار لنفوذ تاريخي أو وصاية أمنية. فوجود بريطانيا البحري في المنطقة لا يُعبّر عن “دور بطولي” بقدر ما يعكس استجابة واقعية لتحدياتٍ مشتركة، تتطلب تنسيقًا متقدّمًا وتكاملًا في القدرات مع الحلفاء الإقليميين.

ومن حماية خطوط الملاحة إلى تطوير القدرات البحرية الخليجية، يتجسّد الحضور البريطاني في الخليج كجزءٍ من بنية أمنية جماعية تتجاوز الثنائية التقليدية بين القوة والتابع، نحو نموذج تشاركي يؤكّد أن الاستقرار البحري الإقليمي نتاج عملٍ جماعي أكثر منه مبادرة أحادية. وبذلك، تصبح علاقة بريطانيا بالخليج مختبرًا للتعاون المتوازن بين الشرق والغرب، حيث تلتقي المصالح الأمنية والاقتصادية والتقنية في إطارٍ من الواقعية والمسؤولية المشتركة.

نقلا عن موقع دفاع العرب

العقيد الركن م ظافر مراد

صحيفة الرياض 24 ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *